دراسات إسلامية
التفكّك
الأسريّ
بقلم : معالي
الدكتور محمد بن سعد الشويعر(*)
إنّ من ذكريات الأسفار والمفاجآت، ما يكون سعيداً مبهجاً، أو يكون
ضاراً محزناً، ومنها ما يكون درساً يتعلمه الإنسان، ومنها ما يكون فائدة واكتشافاً
لبعض عادات الشعوب، وما هو دارج في حياتهم، وكنت أهتم برصد بعض ما يمرّ بي، حسب
وصية الشيخ محمد العبودي متّعه الله بالصحة والعافية لي، أخذاً من قول الشافعي
رحمه الله:
سافـــــر ففــي الأسفـار خمس فـــوائـــــــد
تفرّجُ همٍّ واكتسابُ معيشة وعلم وآداب، وصحبةُ ماجدٍ إلى آخر
تلك الأبيات، التي حبّذ فيها الأسفار، ونسيان المتاعب، إلى جانب المصالح الوفيرة
من الأسفار.. و وجدت في حقيبة السفر هذا الخبر، الذي قرأته في عام 1406هـ فهو خبر صغير
قرأته في الطائرة، في صحيفة الشرق الأوسط، في يوم السبت 19-5-1406هـ، ينطوي تحته
أشياء كثيرة، فتحت عنوان «لا تقرأ هذا الخبر» تشوّقتُ إليه، وفق دلالة كل ممنوع
مرغوب، وإذا هو بهذا النص: دام الخلاف بين الشقيق وشقيقته، سنوات طويلة، وقاطع كل
منهما الآخر، إلى أن اكتشفا أن أمهما، ماتت قبل عام دون أن يعلما بحالتها أحد..
حدث هذا في ولاية (مينسويا) الأمريكية، حيث روبرت هانسون وشقيقته كارول، في بلده
(دولوث).
كان (روبرت) يتصور أن الأم عند (كارول)، وتصورت
(كارول) أن الأم عند شقيقها (روبرت) لكن الأم توفيت عن عمر يناهز 80 عاماً، كانت
قد ماتت داخل شقتها هي، وبقيت جثتها هناك تتحلل وتتعفن مدة عام كامل، وفي أمريكا
التي وصلت إليها هذا الخبر كان موضع حوار مع بعض الطلبة الذين التقيت بهم هناك
لأنه غريب عليّ، فكان موضع حوار ونقاش، عما آلت إليه حضارة الغرب المادية؛ حيث
المادة هي كل شيء، فضاعت الأعراف والقيم، ونسي القريب قريبه، وتفككت المجتمعات.
وقد دخلت مع شاب مسلم في الحديث وهو من
الدارسين في أمريكا، وعاش فيها فترة من حياته وزمناً من عمره الزاهر، وقد رأى
حالات كثيرة، من واقع الناس هناك، قوّت عنده مكانة الإسلام وتعاليمه في بناء
المجتمع وتماسك بنيه، حيث قال: قد أُتهم بالتحيز إذا أبنت عن نظرة الإسلام للمرأة،
أو أسهبت في الدفاع عن حقوقها كما رسمها الإسلام، وجعلها رمزاً للامتثال؛ لأن لها
دوراً في تماسك المجتمع، وترابط الأسرة، ونحمد الله على ذلك عندما نرى الفارق
بيننا وبينهم. ذلك الذي أعطى للمرأة في بيتها ثقلاً لم تكن البشرية تعرف مثله،
ومكانة ترنو المجتمعات لنظرائها.
فقد جاء الإسلام ليجتث جذور
الجاهلية التي تئد البنات خوفاً من العار، وليقضي على حضارة الرومان، أولئك القوم
الذين ينظرون للمرأة بمنظار المادية، ويعتبرونها تباع وتشترى وتورث بعد الوفاة من
زوجها، وعند اليهود الذي يعتبرونها نجسة تمثل الخطيئة، وليهدم دولة الفرس، التي لا
يقيم أفرادها للمرأة وزناً، ويعتبرونها ملهاة للقادة، ومتعة للوجهاء: بالغناء
والرقص.
ديننا الإسلام هو الذي رفع مكانة المرأة
وأعلى منزلتها في الأحكام والحقوق وفي البناء والعمل في مثل هذا القول الكريم:
«وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ» (البقرة: 228) فالمرأة جعلها الله رمزاً للترابط الأسري والمحبة.
ثم يردف هذا الشاب قائلاً:
إن إبانة حقوق المرأة في الإسلام، وتوضيح مكانتها التي أحلها هذا الدين فيه، أمر
لا يقبل المراء أو الجدل، ولا يقبل المرافعة أو الدفاع.. فقد شاهدت في حياتي صوراً
من الواقع، تعبر عن تبرم النساء والرجال من الحالة المتردية في بلادهم، من التفكك
الأسري، والانفصام العائلي، الذي أعاده المفكرون منهم، إلى خلو مجتمعهم من قاعدة
دينية صلبة، تعيد الأفراد إلى ما ينفعهم، ويطمئنهم كما هي الحال في التعليم: بالبر
والإحسان والتعاطف، عند المسلمين.
فهم يرون أن المرأة أُعْطِيت حريتها،
وأخذت من الحضارة ومتعها بما يريحها، وغفلوا عن جوانب الراحة النفسية والإيمان،
فضاعت وخلا ذهنها مما يربطها بمكانتها في الحياة، ودورها الإيجابي في المجتمع؛
فلذا ضاعت وأضاعت عن المهمة التي خُلقت لها ورابطتها بالله سبحانه، كما حصل في خبر
جريدة الشرق الذي ذكرته وله نظائر عديدة عندهم، والبار منهم في والديه يودعهما دار
العجزة، ويسمونها ملجأ المسنين، ثم ينسونهما.. ثم قال:
وسوف أنقل إليك ما يسمح به الوقت من
النماذج، وهو قليل من كثير من واقع الناس في بلاد الغرب، الذين يقدسون المادة؛
ولكن الذي أستطيع إبانته هنا جانب واحد، من الجوانب العديدة، التي حفلت بها
التعاليم، والتي تجعل أفراده قوة مترابطة في الإخاء والتآلف الأسري، ذلك هو البر
الذي محوره الوالدان والعطف الذي تنميه هذه الأم في أولادها منذ نعومة أظفارهم إذا
كانت متربية في بيت علم، أو بيت مترابط أهله، ثم قال وبضدها تتميز الأشياء.
هذا الجانب يبرز أمامي في قصة من الواقع،
وأنموذج من الحياة عايشته هنا في أمريكا؛ حيث كنت أدرس يتراءى أمامي كياناً
ماثلاً، وشيئًا محسوساً عندهم، والحديث لازال لذلك الشاب، الذي عاش في بلاد الغرب
وشاهد بعينه.
فلقد كنتُ أسكن في بناية بإحدى الولايات
التي كنت أدرس فيها، وكانت تجاورني في بناية السكن، امرأة تجاوزت الستين أو كادت،
تعيش بمفردها ولا أرى لها رجلاً واحدًا يسكن أو يزورها، فظننتها متقاعدة مقطوعة
الصلة.
وفي أحد الأيام كعادتي كنت عائداً من
جامعتي بعد يوم دراسي حافل وما كدتُ أقترب من باب شقتي، حتى رأيتُ العجوز تسقط بلا
وعي أو حراك ولم يكن ذلك بفعل جان أراه، أو معتدٍ له مآرب.
ففكرت ملياً: هل أعمل شيئا من أجلها
فأغالب الجانب العاطفي في وجداني ذلك الشعور الذي بدأ ميزانه يخف في نفسي منذ وطأت
قدماي هذه القارة، وعايشت أهلها، وخبرت طباعهم، أو أمضى في سبيلي؟ وكأنني لا أدري
عما يدور حولي، كما هو واقع حالهم ومن عاشر قوماً أخذ طبائعهم، أو أفكر فيما حولي:
إنسان يتحرك في حاجة للمساعدة، ما دام الأمر لا يعنيني، ولا تربطني به أي صلة كما
يريدون هم وكما بدأ بالأسف في بعض المجتمعات الإسلامية بالتأثير فجاءت عبارة (وأنا
مالي).
وقفت برهة ساهماً، وأخيراً تحرك الجانب في
إعطائي ذلك الإحساس الذي ربانا عليه الإسلام، ورضيه الله سبحانه لنا منزلة: فلقد
دخلت امرأة في هرّة النار، حبستها لا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، ولا هي
أطعمتها فماتت، ولقد شكر الله عمل رجل وغفر له؛ لأنه سقى كلبًا يلهث من العطش، كما
جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذه إنسانة تجاهد الموت أمامي، فلابد من
عمل شيء ولن أتأخر عن النجدة مهما كلفني ذلك الأمر.
فاقتربت منها وحركتها فإذا قلبها ينبض،
وإذا أنفاسها تتلاحق متقطعة فطلبت لها سيارة إسعاف نقلتها لأقرب مستشفى؛ حيث أعطيت
علاجاً أعاد إليها الحيوية والنشاط، فأفاقت لترى نفسها على سرير أبيض، يحف بها
ممرضات وطبيب، وهذا الغريب المسلم الذي هو شخصي، وبعد أسئلة وإجابات تأكدت من
ملامحي، وعرفت سحنة وجهي بعدما أجالت نظرها في الذين حولها، لقد وجدتني ذلك الجار،
الذي تراه أحياناً في مدخل العمارة، وتصادفه على درجات السلم، كلما جمعتهما
الصدفة، ذهاباً ومجيئاً في الصباح أو المساء، فلا معرفة تربطهما مع طول الزمن في
المجاورة، ولا تعارف بالأسماء مع طول المدة.
وكانت دهشتها أكثر
واستغرابها أشد عندما أشعرها الطبيب عن حالتها الصحية، وأن الواقف أمامها هو الذي
رعاها، واهتم بها، فلعله واحد من أبنائها، أو ممن تربطه بهم صلة المودة أو المنافع
المادية أو العمل.
قال: هذا الطبيب لأنه يعلم أن من يماثل
هذه السيدة لا يُهتم بها في الغالب في مثل هذا المجتمع إلا لمن لديه منفعة مالية
متبادلة، أو مصلحة من المصالح.
ولكن دهشته زادت واستغرابه اتّسع عندما
أخبرته بأن هذا الشاب عربي مسلم يجاورها في السكن منذ سنتين، ولا تعرف حتى اسمه
بينما هي أمريكية كاثوليكية من أصل أوروبي، ولا ترابط بينهما ولا تعارف أكثر من
هذا.
ثم سألها الطبيب ليضمن حق المستشفى
وأتعابه هو عندما أدرك أنها هي الغريم المطلوب وحده، ولا حق له على هذا الغريب،
الذي لم يستوضح منه عن أسباب إقدامه على هذا الصنيع، وما هي الدوافع التي حملته
على هذا العمل.. فقال: هل لكِ أولاد؟ وما وضعهم المالي والاجتماعي.
وازدادت الدهشة والاستغراب، عندما قالت:
لي ثلاثة أولاد وبنتان لكنني لم أرهم منذ خمس سنوات، ولا يمدونني من إيراداتهم ولا
بسنت واحد، وكانت الدهشة أكبر عندما أخبرت بعناوينهم وأعمالهم، وإذا واحدة من
البنتين في البناية المجاورة لسكن أمها، و واحد من الأولاد يسكن ويعمل في محله
التجاري بنهاية الشارع الذي تسكن فيه أمه.
وإذا الآخـر من الأبناء أستاذ بالجامعة
الذي يدرس فيها هذا العربي المسلم، وعند سؤالها عما إذا كانت تحمل تأميناً صحياً؟
كما هي العادة في تلك الديار؟ أجابت بالنفي، وأن وضعها المالي مهزوز بعد أن أودعها
أولادها الملجأ، فخرجت منه بما لديها من رصيد ادخرته وبدأ في النفاد، وقلت إيرادات
ممتلكاتها التي باعتها واحداً بعد الآخر.
لم يخجل الطبيب بعد أن عرف حالها أن
يطالبها بسداد التكاليف المترتبة عليها، وشدد الأمر عندما طلبت الإمهال، فتحركت
نخوة هذا المسلم وسدد عنها، وأخذها معه ليعيدها لشقتها، وعند ذلك سألته: ما الذي
دفعك لهذا العمل؟ قال: تعاليم ديني الإسلامي وشرح لها تعاليمه، فبكت وقالت: أمن
أجل هذا عشتم متحابين متآلفين، ثم تنهدت وقال: هل يمتد عمري حتى أرى مجتمعنا بمثل
تعاليم دينكم .
* * *
(*) مستشار سماحة مفتي عام المملكة العربية
السعودية ورئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية.
مجلة الداعي الشهرية الصادرة
عن دارالعلوم ديوبند ، رمضان وشوال 1432هـ = أغسطس- سبتمبر 2011م ، العدد : 9-10 ،
السنة : 35